في تطور مفاجئ ومثير للاهتمام داخل أروقة النظام المالي الأمريكي، أعلنت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية (SEC) عن رفضها الطوعي لدعوى قضائية كانت قد رفعتها ضد شركة بينانس، كبرى منصات تداول العملات الرقمية عالميًا، مما يعكس تحولًا ملحوظًا في سياسات التنظيم القانوني للعملات المشفرة في أمريكا.
قرار هيئة الأوراق المالية محيّر أم خطوة استراتيجية؟
في نهاية مايو 2025، وبحسب وكالة رويترز وافقت هيئة الأوراق المالية على إسقاط دعوى مدنية كانت قد رفعتها ضد “بينانس” ومؤسسها تشانغ بينغ تشاو. ورغم أن الهيئة أوضحت أن القرار لا يعكس موقفها القانوني تجاه قضايا العملات الرقمية الأخرى، فإن هذا الانسحاب يكتسب أبعادًا سياسية وتنظيمية كبيرة، خاصة في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الذي وعد بأن يكون “رئيسًا للعملات المشفرة”.

إسقاط القضية “بتحيّز” – أي بشكل نهائي دون إمكانية إعادتها – يفتح الباب لتأويلات متعددة. فهل يعكس ذلك اعترافًا ضمنيًا بأن الملاحقة القضائية قد كانت متعجلة؟ أم هو بداية لنهج أكثر توازنًا وواقعية في التعامل مع عالم الأصول الرقمية؟
كلمة السر والتنظيم من خلال الإنفاذ
من أكثر الانتقادات التي وجّهت إلى هيئة الأوراق المالية خلال إدارة جو بايدن أنها اعتمدت على “التنظيم من خلال الإنفاذ”، أي ملاحقة الشركات بعد تصرفاتها بدلاً من وضع إطار تنظيمي واضح قبل تحركها في السوق.
قال متحدث باسم “بينانس” إن القرار يمثل “لحظة فارقة”، مشيرًا إلى أن بيئة الابتكار لا يمكن أن تزدهر في ظل الخوف من التهديدات القانونية المتكررة. وشكر المتحدث رئيس الهيئة الجديد بول أتكينز وإدارة ترامب لتبنيهم توجهًا جديدًا يرى في العملات المشفرة فرصة لا تهديدًا.
خلفية القضية: ماذا كانت تتهم به بينانس؟
كانت الدعوى الأصلية التي رفعتها الهيئة في يونيو 2023 تتهم بينانس بمجموعة من المخالفات الكبرى، أبرزها:
- تضخيم أحجام التداول بشكل مصطنع.
- خلط أموال العملاء بشكل غير قانوني.
- الترويج لمعلومات مغلوطة حول أنظمة الرقابة الداخلية.
- السماح بتداول رموز اعتبرتها الهيئة أوراقًا مالية غير مسجلة.
وحتى مع سحب الدعوى الأخيرة، فإن هذه الاتهامات لا تزال تلقي بظلالها على سمعة بينانس، خاصة وأنها أقرت بالذنب في قضية منفصلة تتعلق بانتهاك قوانين مكافحة غسل الأموال، ودُفعت بموجبها غرامة هائلة قدرها 4.32 مليار دولار.
هل هو تغيير جذري في سياسات الولايات المتحدة تجاه العملات الرقمية؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا القرار يمثل “تحولًا جذريًا”، لكن التحليل الأعمق يكشف أنه ليس بالضرورة تغييرًا كاملًا، بل إعادة تموضع تكتيكي. إذ أن هيئة الأوراق المالية لم تشر إلى التراجع عن جميع قضاياها، بل أشارت إلى أن هذه الخطوة جاءت في سياق تقديري، وليست قاعدة جديدة.
ومن المهم الإشارة إلى أن الهيئة رفضت أيضًا قضية أخرى ضد منصة Coinbase، مما يوحي بأن هناك بالفعل مراجعة شاملة لنهج التعامل مع القطاع.
العملات المشفرة بين السلع والأوراق المالية
في قلب هذا الجدل، يكمن سؤال جوهري: هل تعتبر العملات الرقمية أوراقًا مالية أم سلعًا؟.
الإجابة على هذا السؤال ليست أكاديمية فحسب، بل تحدد قواعد اللعبة في السوق. فتصنيف الرموز الرقمية كأوراق مالية يعني أنها تخضع لرقابة صارمة من هيئة الأوراق المالية، ويُلزم الشركات بتسجيلها والإفصاح الكامل عن نشاطها ومخاطرها للمستثمرين.
في المقابل، تصنيفها كسلع – مثل الذهب أو النفط – يضعها تحت إشراف هيئات أقل صرامة مثل لجنة تداول العقود الآجلة للسلع (CFTC).
صناعة الكريبتو لطالما فضلت التصنيف الأخير، وتراه أكثر ملاءمة لطبيعة الأصول الرقمية المتغيرة والسريعة.
ترامب والعملات المشفرة: وعود انتخابية تتحول إلى سياسات؟
خلال حملته الانتخابية عام 2024، وعد ترامب بأن يكون “رئيسًا للعملات المشفرة”، وتعهد بوقف “الحملة القمعية” التي شنّها رئيس الهيئة السابق غاري جينسلر.
ومنذ توليه المنصب، شهدنا بالفعل مؤشرات ملموسة:
- وقف عدد من القضايا القانونية.
- تصريحات رسمية تؤكد دعم الابتكار المالي.
- توجه لوضع إطار تنظيمي واضح وشفاف بدلًا من الإجراءات العقابية.
وفي تصريح سابق هذا الشهر، قال أتكينز إن من أولويات الهيئة تطوير إطار تنظيمي يُحدد “قواعد الطريق” لتداول وتخزين وإطلاق الأصول المشفرة، وهو التصريح الذي لاقى ترحيبًا واسعًا في القطاع.
تحديات المرحلة المقبلة بتنظيم لا يخنق الابتكار
رغم الخطوات الإيجابية الأخيرة، فإن التحدي الأكبر يتمثل في تحقيق توازن دقيق بين حماية المستثمرين من جهة، وتوفير بيئة حرة للابتكار من جهة أخرى.
فشركات الكريبتو تطالب بوضوح قانوني يتيح لها العمل ضمن حدود مفهومة، بدلًا من الشعور بالتهديد الدائم. وفي المقابل، تخشى الجهات التنظيمية من أن يؤدي التراخي إلى تكرار مآسي احتيال وانهيارات كبرى مثل ما حدث مع FTX.
قضايا أخرى على الرادار
رغم التراجع في بعض القضايا، إلا أن الهيئة رفعت مؤخرًا دعوى جديدة ضد شركة Unicoin، تتهمها بجمع 100 مليون دولار بطرق احتيالية بزعم أن رموزها مدعومة بأصول حقيقية.
هذا يعني أن الهيئة لا تزال ملتزمة بحماية السوق من اللاعبين السيئين، لكنها على ما يبدو بصدد إعادة تعريف أولوياتها ومجالات تدخلها.
سعر عملة منصة باينانس (BNB) والتوقعات المستقبلية
شهدت عملة BNB، العملة الرقمية الرسمية لمنصة Binance، تراجعًا طفيفًا في سعرها خلال الـ24 ساعة الماضية، حيث انخفضت بنسبة 0.82% لتصل إلى 679.85 دولارًا أمريكيًا (USDT) حتى لحظة كتابة هذا المقال في 29 مايو 2025 الساعة 22:26 بتوقيت UTC، وفقًا لبيانات سوق Binance. وعلى الرغم من أن الانخفاض محدود نسبيًا، إلا أنه يعكس حالة من الحذر والترقب في السوق، خصوصًا في ظل المتغيرات التنظيمية الأخيرة التي تؤثر بشكل مباشر على منصات التداول الكبرى.

تُعد BNB واحدة من أبرز العملات الرقمية من حيث الاستخدام الفعلي داخل نظام Binance البيئي، سواء في تخفيض رسوم التداول، أو في التطبيقات اللامركزية، أو في قطاع التمويل اللامركزي (DeFi). وقد حافظت العملة في السابق على أداء قوي بفضل تبني واسع واستعمال حقيقي داخل النظام، إلا أن التحديات القانونية والتنظيمية التي تواجهها Binance من حين لآخر، مثل القضايا التي أثيرت مع هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، قد تُلقي بظلالها على ثقة المستثمرين في المدى القصير.
توقعات سعر BNB
من الناحية التحليلية، إذا استمرت BNB في التداول فوق حاجز الدعم الرئيسي عند 670 دولارًا، فإنها قد تشهد ارتدادًا صعوديًا خلال الأيام القادمة، خصوصًا إذا ما تباطأت الضغوط التنظيمية أو ظهرت مؤشرات دعم إيجابية من السوق أو من إدارة Binance نفسها. أما في حال كسر مستوى الدعم، فقد نرى السعر يتراجع نحو منطقة 640-650 دولارًا، حيث تكمن مستويات دعم فنية سابقة.
وعلى المدى الطويل، تظل النظرة إلى BNB مرتبطة بمدى استقرار منصة Binance واستمراريتها في تقديم الابتكار والخدمات في مجال العملات الرقمية. لذا فإن أي تحسن في العلاقة مع الجهات التنظيمية، أو إدراج وظائف جديدة لعملة BNB، قد يدفع بالسعر نحو مستويات أعلى من 700 دولار وربما أكثر، في حال عودة السوق إلى اتجاه صعودي عام.
الخلاصة
ما نشهده حاليًا ليس مجرد سحب دعوى قضائية، من قبل هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، بل هو على الأرجح بداية لمرحلة جديدة في العلاقة بين السلطات الأمريكية وسوق العملات المشفرة.
مرحلة تحاول فيها الدولة الأمريكية بناء جسور الثقة مع هذا القطاع الواعد، دون التخلي عن دورها الرقابي الأساسي.
ومع كل التطورات الجارية، بات من الواضح أن مستقبل التنظيم القانوني للعملات المشفرة في أمريكا سيتشكل خلال السنوات القليلة القادمة، مما يتطلب من جميع المهتمين بهذا المجال – سواء كانوا مستثمرين أو مطورين أو صناع قرار – متابعة دقيقة لكل ما يجري على الساحة التنظيمية.
الأسئلة الشائعة حول دعوى هيئة الأوراق المالية ضد باينانس
لماذا سحبت هيئة الأوراق المالية الأمريكية (SEC) الدعوى ضد باينانس؟
سحبت الهيئة دعواها “كمسألة تتعلق بالسياسة”، دون الإشارة إلى ضعف القضية، مما يعني أنها اختارت عدم المتابعة لأسباب إستراتيجية تتعلق بالنهج العام في التنظيم. وبحسب بيان الهيئة، فإن هذا لا يعكس بالضرورة تراجعًا عن موقفها من قضايا العملات المشفرة الأخرى.
ما الفرق بين القضايا المدنية والجنائية التي تواجهها باينانس؟
القضية التي تم سحبها كانت مدنية تتعلق بتنظيم الأوراق المالية. أما القضايا الجنائية، فقد اعترفت باينانس سابقًا بالذنب فيها، خاصة ما يتعلق بانتهاك قوانين غسل الأموال والعقوبات، وتكبدت غرامة 4.32 مليار دولار.
ما موقف باينانس من هذه القضايا؟
رحبت باينانس بسحب الدعوى، ووصفت الأمر بأنه “لحظة فارقة”، مؤكدة أن التنظيم من خلال الإنفاذ القانوني يعيق الابتكار في مجال العملات المشفرة، ودعت إلى “قواعد واضحة” بدلًا من المقاضاة.
ما هو مستقبل عملة BNB بعد هذه التطورات؟
على المدى القصير، قد تؤدي هذه الأخبار إلى تقلبات في سعر BNB. لكن على المدى البعيد، تظل قيمة العملة مرتبطة بأداء منصة Binance وقدرتها على التكيّف مع البيئة التنظيمية الجديدة واستعادة الثقة.