في تطور مفصلي قد يُعيد رسم ملامح المشهد المالي الرقمي في الولايات المتحدة، طرح رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية SEC بالإنابة، مارك أوييدا، تصورًا جديدًا ومثيرًا حول مستقبل تنظيم العملات المشفرة. هذا التصور لا يهدف فقط إلى تكييف الإطار القانوني الحالي مع طبيعة الأصول الرقمية المتغيرة بسرعة.
بل يسعى أيضًا إلى توفير مناخ مرن يسمح للشركات الناشئة والمستثمرين بالابتكار والنمو دون الوقوع في فخ التشريعات الصارمة التي تُعطل التطور وتُجبر المشاريع الواعدة على الهروب نحو أسواق أقل رقابة.
في هذا السياق، جاءت مقترحاته في حدث رسمي داخل مقر اللجنة في العاصمة واشنطن، حيث أشار بوضوح إلى ضرورة بناء أرضية مؤقتة وآمنة تمهّد لإطار تنظيمي أكثر ديمومة ونضجًا في المستقبل القريب.
إشراقة أمل في سماء التنظيم الأمريكي
عندما نتحدث عن العملات المشفرة والبلوكشين، فنحن أمام ثورة تكنولوجية تزداد تعقيدًا وتوسعًا يومًا بعد يوم. وهذا النمو الهائل يتطلب استجابة تنظيمية متوازنة، لا تقتل الابتكار في مهده، ولا تُغفل في ذات الوقت أهمية حماية المستثمرين واستقرار السوق.
ومن هذا المنطلق، أكد مارك أوييدا أن لجنة الأوراق المالية والبورصات بحاجة إلى ما يمكن وصفه بـ”المرحلة الانتقالية الذكية”، حيث يُتاح للمؤسسات العاملة في المجال الرقمي فرصة للتكيف والتطور تحت غطاء تنظيمي مرن ومؤقت. هذا النهج يهدف إلى منح الشركات الوقت والمساحة لتجربة نماذجها التجارية دون أن تقع ضحية لمتاهات قانونية قد تُعيق مسيرتها أو تُجبرها على التوقف الكلي عن العمل داخل الولايات المتحدة.
النهج الجديد لا يسعى فقط إلى تسهيل عمل هذه الكيانات، بل يهدف أيضًا إلى تعزيز مكانة أمريكا كمركز عالمي رائد في الابتكار التكنولوجي والمالي. وفي ظل تزايد التوجهات التنظيمية حول العالم، فإن الولايات المتحدة لا تملك رفاهية التأخير، بل عليها اتخاذ خطوات جريئة واستباقية لضمان استمرارية ريادتها في مجال الأصول الرقمية.
“صندوق تنظيمي”… نافذة جديدة للأوراق المالية المرمزة SEC
في مشهد يُشبه ما حدث في بدايات الإنترنت، حين أُنشئت بيئات اختبار تجريبية للشركات التقنية الناشئة، يقترح أوييدا الآن اعتماد “صندوق تنظيمي” للشركات التي تتعامل مع الأوراق المالية المرمزة. هذه الفكرة الرائدة تفتح بابًا جديدًا نحو تمكين المشاريع من العمل داخل بيئة مؤطرة، تحاكي الواقع ولكن بدون قيود تنظيمية خانقة.

ويُشبه هذا النهج إلى حد كبير مختبرًا تشريعيًا يسمح بتجريب الأفكار ونماذج الأعمال في بيئة مراقبة ولكن غير عقابية، ما يتيح جمع البيانات وتقييم المخاطر وتحديد السياسات الملائمة قبل تعميمها بشكل رسمي.
وفي هذا الصندوق التنظيمي، سيكون بإمكان الشركات، سواء كانت مسجلة أو لا، التعامل بحرية نسبية مع الأصول المرمزة، شريطة الالتزام بمجموعة من المعايير الأخلاقية والمالية التي تحافظ على الحد الأدنى من الحماية للمستثمرين.
من شأن هذا النموذج أن يُحفّز دخول شركات جديدة إلى السوق، ويُشجع رأس المال المغامر على الاستثمار بثقة أكبر، كما يسهم في سد الفجوة بين التشريع والتكنولوجيا التي غالبًا ما تُعطل مسيرة الابتكار.
إعفاءات مشروطة لتعزيز الابتكار المحلي
ولأن الابتكار لا ينتظر، فإن أوييدا طرح أيضًا فكرة الإعفاءات المشروطة والمؤقتة كأداة حيوية لدفع عجلة النمو التكنولوجي. هذه الإعفاءات ستكون محددة زمنيًا ومرتبطة بشروط دقيقة، ما يعني أن الكيانات التي تُظهر التزامًا بالتطوير المسؤول والمستدام يمكنها الاستفادة من مزايا تنظيمية تُسهل عملياتها وتفتح أمامها آفاقًا أوسع للعمل داخل السوق الأمريكي.
هذا النوع من الإعفاءات يمثل توازنًا دقيقًا بين المرونة والحماية، ويُظهر استعدادًا متقدمًا من اللجنة لتبني مقاربات أكثر تطورًا تتماشى مع طبيعة السوق الحديثة. كما أنه يُوجه رسالة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة تسعى ليس فقط لتنظيم السوق، بل لتطويره وجذب أفضل العقول والمشاريع إليه، بدلاً من دفعها نحو الهروب إلى بلدان ذات أنظمة أكثر مرونة.
هل يشهد عام 2025 بداية لحقبة تنظيمية جديدة؟
مع اقتراب النصف الثاني من العقد، تتزايد التوقعات بأن يشهد عام 2025 بداية حقيقية لتحول تنظيمي عميق في تعامل الولايات المتحدة مع العملات المشفرة. فبدلاً من المقاربة التقليدية التي تتسم بالتحفظ والتشدد، يبدو أن لجنة الأوراق المالية والبورصات بدأت تُدرك أن العصر الرقمي يتطلب أدوات تنظيمية من نفس جنسه، قادرة على فهم ديناميكيات التكنولوجيا وتطوراتها المتسارعة.
فمن خلال المبادرات المقترحة، قد نكون أمام لحظة مفصلية تُعيد الولايات المتحدة إلى صدارة السباق العالمي في مجال الأصول الرقمية، وتضع حدًا لحالة التردد التي دفعت العديد من المشاريع إلى الانتقال إلى بيئات تنظيمية بديلة في أوروبا أو آسيا.
وإذا نجحت هذه المقترحات في التحول إلى قوانين وإجراءات عملية، فقد نكون على أعتاب مرحلة جديدة تُعزز من استقرار السوق وتُطلق العنان لإمكانات غير مسبوقة في الاقتصاد الرقمي.
الخلاصة
التنظيم الذكي بوابة إلى المستقبل الرقمي، ما طرحه مارك أوييدا ليس مجرد اقتراح تنظيمي، بل هو رؤية استراتيجية لمستقبل التمويل الرقمي في الولايات المتحدة والعالم. إطار تنظيمي مؤقت، صندوق تنظيمي، إعفاءات مشروطة… كلها أدوات تشير إلى تغير عميق في الطريقة التي تنظر بها الهيئات الرسمية إلى العملات المشفرة.
إنها بداية عهد جديد، تتحول فيه السياسات من أداة قمع إلى منصة تمكين، وتُصبح القوانين وسيلة لحماية الابتكار، لا عائقًا أمامه.
في النهاية، يظل السؤال الأهم: هل تملك الولايات المتحدة الشجاعة الكافية لتطبيق هذه الأفكار الطموحة على أرض الواقع؟ وحده الزمن كفيل بالإجابة، ولكن الأكيد أن البذرة قد زُرعت، والابتكار لا ينتظر.